الشـــــــــــــــــــــــــــك
بقلمي هبه عبد الغني
====================================
ولأن قلوب البشر ألوان وألسنتهم منها ما هو بلسم يشفي الجراح ومنها ما هو سكين يقتُل ويُفرق، فكان وقع الكلمات على أًذن بدرية كالزلزال الذي أخرج بركانًا كامنًا في قلبها ، قلبها الذي أماتته بيديها منذ زمن بعيد حينما نسيت أنها امرأة ..
فبعد أن توفى زوجها المريض حملت على عاتقها مسئولية ولدِها الرضيع وخدمة أمها وأخواتها الصغار ، ولم يكن أمامها وهي لم تكمل تعليمها إلا أن تعمل خادمة في بيوت الأغنياء والمسنين والعزاب دون التمييز أو الخوف من ألسنة البشر ، رغم نظرات الحذر والحيطة التي تشعر بها من الزوجات اللاتي تعمل لديهن خوفًا على أزواجهن ، ونظرات الطمع في جسدها من عيون بعض الرجال المرضى ، ظلت تعمل خادمة لتسد جوع أخواتها وتعالج والدتها المريضة ، تنسى نفسها وأمنياتها وطموحاتها وأحلامها وتكتفي بدعوة من والدتها وابتسامه من ولدها الصغير - حينما تحضر له لُعبه - فقط هي كل ما تبغي من الدنيا وتحلم به ...
ترمق الحُلي الذهبية في أيدي الزوجات وترجع عينيها لنفسها تقول : ليس لي هذا الحُلم ..
تتلمس أفخم الملابس وأرقى العطور وأغلى الأثاث وتعود لنفسها تقول : ليس لي هذا الحُلم ...
جعلت من نفسها وسيلة لإسعاد ولدها وأمها وأخواتها ، فقط مجرد وسيلة ، تضحك معهم ضحكة مسجونة داخل قفص الاتهام لكونها خادمة ينظر لها الجميع بنظرة الشك ، هي ترى وتعلم وتحس وتتألم ولا تستطيع الدفاع عن نفسها أمام هذه الاتهامات كلما دخلت إحدى البيوت لخدمتها .
حتى طوي الزمان صفحات حياتها صفحة تلو الأخرى وهي على حالتها خادمة ، كبُر أخواتها وما كان منهم إلا نكران الجميل والتبرؤ منها لأنها خادمة محاطة بنظرات الشك ، تحملت وتناست ...
حتى توفت الوالدة وتزوج الأخوة ولم يعد أحد يأتي للسؤال عنها من قريب أو من بعيد ، تحملت وتناست ....
وعاهدت نفسها أن تُفني أجمل سنين عمرها القادمة في رفع شأن ولدها الوحيد وأن تحقق فيه جميع أحلامها وطموحاتها التي دفنتها داخل قلبها منذ زمن لأنها لم يكن لها الحق لتحلُم ..
تناست كل الآلام وظلت تعمل خادمة غير عابئة بنظرات الشك والطمع والحذر تعمل وتخدم من أجل ولدها حتى أصبح طبيبًا يُلاحقه لقب ابن الخادمة المشكوك في أمرها ، وحينما أحب وأخذه قلبه إلى شريكة العمر طلب من والدته ألا تأتي معه وألا تحضر زفافه فلقد أخبر حبيبته أنه عصامي يتيم الأب والأم حتى لا يلاحقه لقب ابن الخادمة طوال العمر ...
رحل ... وتركها مع صدمتها .. وما كان منها إلا أن تركت بيتها بما فيه من أحزان وذكريات قلب قتلته بنفسها ودفنته منذ زمن بعيد تحت أقدام من اعتقدت يومًا أنهم أحبه .. أسرعت إلى البحر تلقي بجسدها بين أمواجه المتلاطمة ، تبكي وتنادي صارخة رب السماء : يا الله أغسلني من ذنوبي التي لم أرتكبها .. يا الله طهرني بماء بحرك من عار نظرات قطعت جسدي إربًا ..
يا الله لم أجد من البشر إلا الظلم والنكران فخذني إليك فأنت أعلم أني أطهر من ملح بحرك الذي لم يمسسه بشر .